كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما وجه الاعتراض: فهو أن القلب إذا تعلق بالرجاء ولم يظفر بمرجوه: اعترض حيث لم يحصل له مرجوه ولم يظفر به وإن ظفر به: اعترض حيث فاته غيره ذلك المرجو لأن كل أحد يرجو فضل الله ويحدث نفسه به وفيه وجه آخر من الاعتراض: وهو أن يعترض على ربه تعالى بما يرجو منه لأن الراجي متمن لما يرجو مؤثر له وذلك اعتراض على القدر مناف لكمال الاستسلام والرضى بما سبق به القضاء فإذا تيقن له أنه سبق القضاء بشيء فإنه لابد أن يناله فعلق قلبه برجاء شيء من الفضل فقد اعترض على القضاء ولم يعرف للاستسلام للحكم حقه وذلك وقوع في الرعونة في مذهب السائرين على درب الفناء الناظرين إلى عين الجمع إذ الرعونة هي الوقوف مع حظ النفس والرجاء هو الوقوف مع الحظ لأنه يتعلق بالحظوظ وأصحاب هذه الطريقة أول طريقهم: الخروج عن نفوسهم فضلا عن حظوظها لأنهم عاملون على أن يكونوا بالله لا بنفوسهم فغاية المحب: أن يرضى بأحكام محبوبه عليه ساءته أم سرته حتى يبلغ بأحدهم هذا الحال إلى أن ينشد:
أحبك لا أحبك للثواب ** ولكني أحبك للعقاب

وكل مآربي قد نلت منها ** سوى ملذوذ وجدي بالعذاب

ولو كان نفس تلذذه بالعذاب مقصوده من العذاب: لكان أيضا واقفا مع حظه ولكن أراد أن رضاه بمراد محبوبه منه ولو كان عذابه لم يدع فيه للرجاء موضعا ولا للخوف بل يقول: أنا أحب ما تريده بي لو أنه عذابي وقد كشف بعض المغرورين عن هذا بقوله:
وتعذيبي مع الهجران عندي ** أحب إلي من طيب الوصال

لأني في الوصال عبيد حظي ** وفي الهجران عبد للموالي

فأخبر أن التعذيب بالهجران أحب إليه من طيب الوصال لكون الوصال فيه ما تشتهيه النفس وأما التعذيب: فليس للنفس فيه مقصود ثم أخبر أنه لم يأت في القرآن والسنة إلا لفائدة واحدة وهي تبريده لحرارة الخوف حتى لا يفضي بصاحبه إلى الإياس وهذا وجه كلامه وحمله على أحسن المحامل فيقال: هذا ونحوه من الشطحات التي ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات ويستغرقها كمال الصدق وصحة المعاملة وقوة الإخلاص وتجريد التوحيد ولم تضمن العصمة لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس:
إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة ولطف نفوسهم وصدق معاملتهم فأهدروها لأجل هذه الشطحات وأنكروها غاية الإنكار وأساءوا الظن بهم مطلقا وهذا عدوان وإسراف فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها.
والطائفة الثانية: حجبوا بما رأوه من محاسن القوم وصفاء قلوبهم وصحة عزائمهم وحسن معاملاتهم عن رؤية عيوب شطحاتهم ونقصانها فسحبوا عليها ذيل المحاسن وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها واستظهروا بها في سلوكهم وهؤلاء أيضا معتدون مفرطون.
والطائفة الثالثة: وهم أهل العدل والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح بل قبلوا ما يقبل وردوا ما يرد وهذه الشطحات ونحوها هي التي حذر منها سادات القوم وذموا عاقبتها وتبرؤا منها حتى ذكر أبو القاسم القشيرى في رسالته: أن أبا سليمان الداراني رؤى بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك فقال: غفر لي وما كان شيء أضر علي من إشارات القوم وقال أبو القاسم: سمعت أبا سعيد الشحام يقول: رأيت أبا سهل الصعلوكي في المنام فقلت له: أيها الشيخ فقال: دع التشييخ فقلت: وتلك الأحوال فقال: لم تغن عنا شيئا فقلت: ما فعل الله بك قال: غفر لي بمسائل كانت تسأل عنها العجائز.
وذكر عن الجريري: أنه رأى الجنيد في المنام بعد موته فقال: كيف حالك يا أبا القاسم فقال: طاحت تلك الإشارات وفنيت تلك العبارات وما نفعنا إلا تسبيحات كنا نقولها بالغدوات وقال أبو سليمان الداراني: تعرض علي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل: الكتاب والسنة وقال الجنيد: مذهبنا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدي به في طريقنا هذا إلى غير ذلك من الأقوال التي وردت عنهم رضي الله عنهم.
فأما قوله: الرجاء أضعف منازل المريدين فليس كذلك بل هو من أجل منازلهم وأعلاها وأشرفها وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله وقد مدح الله تعالى أهله وأثنى عليهم فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] وفي الحديث الصحيح الإلهي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي» وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» رواه مسلم وقد أخبر تعالى عن خواص عباده الذين كان المشركون يزعمون أنهم يتقربون بهم إلى الله تعالى: أنهم كانوا راجين له خائفين منه فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 59:57] يقول تعالى هؤلاء الذين تدعونهم من دوني: هم عبادي يتقربون إلي بطاعتي ويرجون رحمتي ويخافون عذابي فلماذا تدعونهم من دوني فأثنى عليهم بأفضل أحوالهم ومقاماتهم: من الحب والخوف والرجاء.
قوله: لأنه معارضة من وجه واعتراض من وجه يقال: وهو عبودية وتعلق بالله من حيث اسمه المحسن البر فذلك التعلق والتعبد بهذا الاسم والمعرفة بالله: هو الذي أوجب للعبد الرجاء من حيث يدري ومن حيث لا يدري فقوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وغلبة رحمته غضبه ولولا روح الرجاء لعطلت عبودية القلب والجوارح وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات ولى من أبيات:
لولا التعلق بالرجاء تقطعت ** نفس المحب تحسرا وتمزقا

وكذاك لولا برده بحرارة ال ** كباد ذابت بالحجاب تحرقا

أيكون قط حليف حب لا يرى ** برجائه لحبيبه متعلقا

أم كلما قويت محبته له ** قوي الرجاء فزاد فيه تشوقا

لولا الرجا يحدو المطي لما سرت ** بحمولها لديارهم ترجو اللقا

وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء وكل محب راج خائف بالضرورة فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون إليه وكذلك خوفه فإنه يخاف سقوطه من عينه وطرد محبوبه له وإبعاده واحتجابه عنه فخوفه أشد خوف ورجاؤه ذاتي للمحبة فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه فإذا لقيه ووصل إليه اشتد الرجاء له لما يحصل له به من حياة روحه ونعيم قلبه من ألطاف محبوبه وبره وإقباله عليه ونظره إليه بعين الرضى وتأهيله في محبته وغير ذلك مما لا حياة للمحب ولا نعيم ولا فوز إلا بوصوله إليه من محبوبه فرجاؤه أعظم رجاء وأجله وأتمه فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه لكن خوف المحب لا يصحبه وحشه بخلاف خوف المسيء ورجاء المحب لا يصحبه علة بخلاف رجاء الأجير وأين رجاء المحب من رجاء الأجير وبينهما كما بين حاليهما.
وبالجملة: فالرجاء ضرورى للمريد السالك والعارف لو فارقه لحظة لتلف أو كاد فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه وعيب يرجو إصلاحه وعمل صالح يرجو قبوله واستقامة يرجو حصولها ودوامها وقرب من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها ولا ينفك أحد من السالكين عن هذه الأمور أو بعضها فكيف يكون الرجاء من أضعف منازله وهذا حاله وأما حديث المعارضة والاعتراض فباطل فإن الراجي ليس معارضا ولا معترضا بل راغبا راهبا مؤملا لفضل ربه محسن الظن به متعلق الأمل ببره وجوده عابدا له بأسمائه المحسن البر المعطي الحليم الغفور الجواد الوهاب الرزاق والله سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يرجوه ولذلك كان عند رجاء العبد له وظنه به والرجاء من الأسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه بل هو من أقوى الأسباب ولو تضمن معارضة واعتراضا لكان ذلك في الدعاء والمسألة أولى فكان دعاء العبد ربه وسؤاله أن يهديه ويوفقه ويسدده ويعينه على طاعته ويجنبه معصيته ويغفر ذنوبه ويدخله الجنة وينجيه من النار معارضة واعتراضا لأن الداعي راج وطالب ما يرجوه فهو أولى حينئذ بالمعارضة والاعتراض.
والذي أوجب للشيخ هذا القدر: الاسترسال في القدر والفناء في شهود الحقيقة الكونية فإنه من الراسخين فيه الذين لا تأخذهم فيه لومة لائم وهو شديد في إنكار الأسباب وهذا موضع زلت فيه أقدام أئمة أعلام ولولا أن حق الحق أوجب من حق الخلق لكان في الإمساك فسحة ومتسع وليس في الرجاء ولا في الدعاء معارضة لتصرف المالك في ملكه فإنه إنما يرجو تصرفه في ملكه أيضا بما هو أولى وأحب الأمرين إليه فإن الفضل أحب إليه من العدل والعفو أحب إليه من الانتقام والمسامحة أحب إليه من الاستقصاء والترك أحب إليه من الاستيفاء ورحمته غلبت غضبه فالراجي علق رجاءه بتصرفه المحبوب له المرضي له فلم يوجب رجاؤه خروجه عن تصرفه في ملكه بل اقتضى عبوديته وحصول أحب التصرفين إليه وهو سبحانه وتعالى لا ينتفع باستيفاء حقه وعقوبة عبده حتى يكون رجاؤه مبطلا لذلك وإنما العبد استدعى العقوبة وأخذ الحق منه لشركه بالله وكفره به واجتهاده في غضبه ولغضبه موجبات وآثار ومقتضيات والعبد مؤثر لها ساع في تحصيلها عامل عليها بإيثاره إياها وسعيه في أسبابها فهو المهلك لنفسه وربه يحذره ويبصره ويناديه: هلم إلي أحمك وأصنك وأنجك مما تحذر وأؤمنك من كل ما تخاف وهو يأبى إلا شرودا عليه ونفارا عنه ومصالحة لعدوه ومظاهرة له على ربه متطلب لمرضاة خلقه بمساخطه رضى المخلوق آثر عنده من رضى خالقه وحقه آكد عنده من حقه وخوفه ورجاؤه وحبه في قلبه أعظم من خوفه من الله ورجائه وحبه فلم يدع لفضل ربه وكرامته وثوابه إليه طريقا بل سد دونه طرق مجاريها بجهده وأعطى بيده لعدوه فصالحه وسمع له وأطاع وانقاد إلى مرضاته فجاء من الظلم بأقبحه وأشده فهو الذي عارض مراده به منه بمراده وهواه وشهوته واعترض لمحابه ومراضيه بالدفع ولم يأذن لها في الدخول عليه فأضاع حظه وبخس حقه وظلم نفسه وعادى حبيبه ووالى عدوه وأسخط من حياته في رضاه وأرضى من حياته في سخطه وجاد بنفسه لعدوه وبخل بها عن حبيبه ووليه والرب تبارك وتعالى ليس له ثأر عند عبده فيدركه بعقوبته ولا يتشفى بعقابه ولا يزيد ذلك في ملكه مثقال ذرة ولا ينقص مغفرته ولو غفر لأهل الأرض كلهم لما نقص مثقال ذرة من ملكه كيف والرحمة أوسع من العقوبة وأسبق من الغضب وأغلب له وهو قد كتب على نفسه الرحمة فرجاء العبد له لا ينقص شيئا من حكمته ولا ينقص ذرة من ملكه ولا يخرجه عن كمال تصرفه ولا يوجب خلاف كمال ولا تعطيل أوصافه وأسمائه ولولا أن العبد هو الذي سد على نفسه طرق الخيرات وأغلق دونها أبواب الرحمة بسوء اختياره لنفسه: لكان ربه له فوق رجائه وفوق أمله وأما استسلام العبد لربه واستسلامه بانطراحه بين يديه ورضاه بمواقع حكمه فيه: فما ذاك إلا رجاء منه أن يرحمه ويقيله عثرته ويعفو عنه ويقبل حسناته مع عيوب أعماله وآفاتها ويتجاوز عن سيئاته فقوة رجائه أوجبت له هذا الاستسلام والانقياد والانطراح بالباب ولا يتصور هذا بدون الرجاء ألبتة فالرجاء حياة الطلب والإرادة روحها وأما رضاه بمراده منه وإن عذبه: فهذا هو الرعونة كل الرعونة فإن مراده سبحانه نوعان: مراد يحبه ويرضاه ويمدح فاعله ويواليه فموافقته في هذا المراد: هي عين محبته وإرادة خلافه رعونة ومعارضة واعتراض ومراد يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله ويعاديه فموافقته في هذا المراد: عين مشاقته ومعاداته ومخالفته والتعرض لمقته وسخطه فهذا الموضع موضع فرقان فالموافقة كل الموافقة معارضة هذا المراد واعتراضه بالدفع والرد بالمراد الآخر فالعبودية الحق: معارضة مراده بمراده ومزاحمة أحكامه بأحكامه فاستسلامه لهذا المراد المكروه المسخوط وما يوجبه ويقتضيه: عين الرعونة والخروج عن العبودية وهو عين الدعوى الكاذبة إذ لو كان مصدر ذلك الاستسلام والموافقة وترك الاعتراض والمعارضة لكان ذلك مخصوصا بمحابه ومراضيه وأوامره التي الاستسلام لها والموافقة فيها وترك معارضتها والاعتراض عليها هو عين المحبة والموالاة.
وأما الفناء بمراد ربه: فقد تقدم أن المحمود من هو ذلك: الفناء بمراده الديني الأمري لا الكوني القدري فإن الكون كله مراده القدري خيره وشره.
وأما تعلق الرجاء بمراده دون مراد سيده: فهو إنما علقه بمراده المحبوب له هاربا من مراده المسخوط المكروه له وعلى تقدير أن يكون محبوبا له إذا كان انتقاما فالعفو والفضل أحب إليه منه فهو إنما علق رجاءه بأحب المرادين إليه.
وأما كون الرجاء اعتراضا على ما سبق به الحكم: فليس كذلك بل تعلقا بما سبق به الحكم فإنه إنما يرجو فضلا وإحسانا ورحمة سبق بها القضاء والقدر وجعل الرجاء أحد أسباب حصولها فليس الرجاء اعتراضا على القدر ولا معارضة للقدر بل طلبا لما سبق به القدر وأما اعتراضه إذا لم يحصل له مرجوه: فهذا نقص في العبودية وجهل بحق الربوبية فإن الراجي والداعي يرجو ويدعو فضلا لا يستحقه ولا يستوجبه بمعاوضة فإن أعطيه فمحض المنة والصدقة عليه وإن منعه فلم يمنع حقا هو له فاعتراضه رعونة وجهالة ولا يلزم من فوات المرجو أو عدم حصول المدعو به في حق العبد الصادق: معارضة ولا اعتراض.
وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى ثلاث خصال لأمته فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة فرضي بما أعطاه ولم يعترض فيما منعه بل رضي وسلم وأما كون الرجاء وقوفا مع الحظ وأصحاب هذه الطريقة قد خرجوا عن نفوسهم فكيف حظوظهم فيا لله العجب أي رعونة فيمن يجعل رجاء العبد ربه وطمعه في بره وإحسانه وفضله وسؤاله ذلك بقلبه ولسانه فإن الرجاء هو استشراف القلب لنيل ما يرجوه فإذا كان العبد دائما مستشرفا بقلبه سائلا بلسانه طالبا لفضل ربه فأي رعونة ههنا وهل الرعونة كل الرعونة إلا خلاف ذلك.
ومن العجب: دعواهم خروجهم عن نفوسهم وهم أعظم الناس عبادة لنفوسهم وليس الخارج عن نفسه إلا من جعلها حبسا على مراد الله الديني الأمري النبوي وبذلها لله في إقامة دينه وتنفيذه بين أهل العناد والمعارضة والبغي فانغمس فيهم يمزقون أديمه ويرمونه بالعظائم ويخيفونه بأنواع المخاوف ويتطلبون دمه بجهدهم لا تأخذه في جهادهم في الله لومة لائم يصدع بالحق عند من يخافه ويرجوه قد زهد في مدحهم وثنائهم وتعظيمهم وتشييخهم له وتقبيل يده وقضاء حوائجه يصيح فيهم بالنصائح جهارا ويعلن لهم بها ويسر لهم إسرارا قد تجرد عن الأوضاع والقيود والرسوم وتعلق بمراضي الحي القيوم مقامه ساعة في جهاد أعداء الله ورباطه ليلة على ثغر الإيمان آثر عنده وأحب إليه من فناء ومشاهدات وأحوال هي أعظم عيش النفس وأعلى قوتها وأوفر حظها ويزعم أنه قد خرج عن نفسه فكيف حظها ولعله قد خرج عن مراد ربه من عبوديته إلى عين مراده وهو حظه ولو فتش نفسه لرأى ذلك فيها عيانا وهل الرعونة كل الرعونة إلا دعواه: أنه يحب ربه لعذابه لا لثوابه وأنه إذا أحبه وأطاعه للثواب كان ذلك حظا وإيثارا لمراد النفس بخلاف ما إذا أحبه وأطاعه ليعذبه فإنه لاحظ للنفس في ذلك فوالله ليس في أنواع الرعونة والحماقة أقبح من هذا ولا أسمج وماذا يلعب الشيطان بالنفوس وإن نفسا وصل بها تلبيس الشيطان إلى هذه الحالة لمحتاجة إلى سؤال المعافاة فزن أحوال الأنبياء والرسل والصديقين وسؤالهم ربهم على أحوال هؤلاء الغالطين الذين مرجت بهم نفوسهم ثم قايس بينهما وانظر التفاوت فأين هذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقوله لعمه العباس رضي الله عنه: يا عباس! يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم سل الله العافية وقوله للصديق الأكبر رضي الله عنه وقد سأله أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم وقوله لصديقة النساء وقد سألته دعاء تدعو به إن وافقت ليلة القدر فقال: قولي: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» وقوله في دعائه الذي كان لا يدعه: وإن دعا بدعاء أردفه به: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} وقد أثنى الله تعالى على خاصته وهم أولو الألباب بأنهم سألوه: أن يقيهم عذاب النار فقالوا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] وقال لأم حبيبة لو سألت الله أن يجيرك من عذاب النار لكان خيرا لك وكان يستعيذ كثيرامن عذاب النار ومن عذاب القبر وأمر المسلمين: أن يستعيذوا في تشهدهم من عذاب القبر وعذاب النار وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال حتى قيل: إن هذا الدعاء واجب في الصلاة لا تصح إلا به وهذا أعظم من أن نستقصيه ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مريض يعوده فرآه مثل الفرخ فقال: ما كنت تدعو به فقال: كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعاقبني به في الدنيا فقال: «سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا سألت الله العفو والعافية» وفي المسند عنه قال: ما سئل الله شيئا أحب إليه من سؤال العفو والعافية وقال لبعض أصحابه: ما تقول إذا صليت فقال: أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا حولها ندندن» فأين هذا من حال من قال: لا أحبك لثوابك لأنه عين حظي وإنما أحبك لعقابك لأنه لاحظ لي فيه والرجاء عين الحظ ونحن قد خرجنا عن نفوسنا فما لنا وللرجاء فهذا وأمثاله أحسن ما يقال فيهم: إنه شطح قد يعذر فيه صاحبه إذا كان مغلوبا على عقله كالسكران ونحوه ولا تهدر محاسنه ومعاملاته وأحواله وزهده ولكن الذي ينكر كون هذا من الأحوال الصحيحة والمقامات العلية التي يتعاطاها العبد ويشمر إليها فهذا الذي لا تلبس عليه الثياب ولا تصبر عليه نفوس العلماء وحاشا سادات القوم وأئمتهم من هذه الرعونات بل هم أبعد الناس منها نعم قد يعرض لأحدهم حال يحدث نفسه فيه بأنه لو عذبه لكان راضيا بعذابه كرضى صاحب الثواب بثوابه ويعزم على ذلك بقلبه ولكن هذا عزم وأمنية وعند الحقيقة لا يكون لذلك أثر ألبتة ولو امتحنه بأدنى محنة لصاح واستغاث وسأل العافية كما جرى للقائل وهو سمنون:
وليس لي من هواك بد ** فكيفما شئت فامتحني

فامتحنه بعسر البول فطاحت هذه الدعوى عنه واضمحل حالها وجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب فالعزم على الرضى لون وحقيقته لون آخر.